كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم مراتب تلك الحاجات مختلفة تعلم بالأدلة الشرعية، فليس فيما ذكره ما يرفع التعلق بالعموم من هذه الآية.
وحكى عن أبي يوسف القاضي أنه قال:
تأويل الآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}، لعدم الحرة في ملكه، وقال: وجود الطول هو كون الحرة تحته.
فلزمه على هذا، أن من ليس عنده حرة، فهو غير مستطيع للطول إليها، فالطول عنده هو وطء الحرة.
وهذا التأويل في غاية الضعف فإنه لما قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}، فيقتضي أن يكون غير مستطيع أمرا، والذي لا حرة تحته، قادر على نكاح الحرة ووطئها إذا نكح.
فإن قال: هو عاجز في الحال قبل النكاح، فلا يخفى أن في مثل ذلك لا يقال هو غير مستطيع للوطء، وإنما الطول الفضل والغنى، قال اللّه تعالى: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ}.
وعلى أن الذي الحرة عنده لا ينكح الأمة.
وإن كان عاجزا عن وطئها كالغائبة والصغيرة والرتقاء، فلا حاصل لهذا التأويل بوجه، فكيف يتوهم ذلك وقد قال تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}.
والقادر على نكاح الحرة، كيف يخشى العنت إذا عشقها وصار مفتتنا بها؟ فيقال في الجواب عنه:
فإن عندك لا يعتبر الخوف من هذا الوجه، فلا وجه لاعتباره.
نعم هاهنا دقيقة، وهي: أن الحرة إذا كانت في نكاح الحر عندنا، فلا تحل له الأمة، سواء خاف العنت أو لم يخف، وسواء قدر على الحرة أم لم يقدر، كغيبتها أو رتقها، فليس يحرم نكاح الأمة هاهنا لوجود الطول، أو لأمن العنت، بل لعين نكاح الحرة.
وكان الشافعي رضي اللّه عنه يقول: الظاهر من وجود النكاح الطول والأمن، فلا مبالاة بنكاح نادر لا يفضي إلى ذلك، بل يحسم الباب.
نعم الغيبة عن ماله جعلت عدما شرعا في أصل آخر، وهو جواز أخذ الصدقة، فيلقى ذلك من ذلك الأصل، فلم يمكن اعتبار غيبة الماموضع الذي قد أبيح؟
وهذا في غاية الركاكة، وحاصله أن القدرة مانعة للنكاح الذي اعتبرت مانعة لأجله، وإن نكح حرة وهو قادر فلا ينكح، وإن نكح حرة وخرج عن كونه قادرا فله نكاح الأمة، وجعل القدرة مانعة، من غير أن يكون المنع لأجل المقدور عليه وهو النكاح، وهذا في غاية البعد.
قوله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}.
يدل على اعتبار الإيمان على الوجه الذي تقدم ذكره في أول الآية، وكيفية الاستدلال بها.
ومن الجهالات العظيمة قول الرازي: إن قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، يتناول الإماء والكتابيات، مع أنه تعالى ذكر ذلك ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ}.
فأبان أن إطلاق المحصنة ما تناول الأمة المؤمنة، أفتراها متناولة للكافرة؟ وذلك في غاية الركاكة.
نعم هاهنا شيء، وهو أنه إن قال قائل: قد أبان اللّه تعالى أقسام المحرمات بالرضاع وبالنسب ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ}:
فأشبه أن يكون ما بعده تعرض لبيان ما يكره من الأنكحة وما لا يكره، مع الإجزاء، ليكون كتاب اللّه تعالى مستوعبا للقسمين، فأبان بعد قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ}.
وقال بعده: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ} لإبانة المكروه من النكاح.
ولذلك قال: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ}.
وقال: {الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ}.
ولو نكح غير مؤمنة يجوز، لأن القصد بيان المكروه لا بيان المحرم.
والجواب عنه، أن المقصود بالأول بيان حكم المحرمات اللواتي لا تحل بحال، وذكر بعده ما يجوز أن يباح في بعض الأحوال، وذكر بعده ما يحرم لفقد شرط في العقد، لا لتحريم في المحل، فلم يقل المحل محرم، ولكنه أبان عن شرط العقد.
ودل على بطلان هذا التأويل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
ودل عليه أيضا قوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، مع أن نكاحها مكروه، فهذا يدل على بطلان التأويل قطعا.
إذا تمهد هذا الأصل، فيبقى بعده النظر في أن الشافعي رضي اللّه عنه يجوز للعبد نكاح الأمة مع الحرة، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}، عام في الجميع.
فقال الشافعي رضي اللّه عنه: لا طول للعبد.
فقيل له، إذا كانت الحرة تحته فهو مستطيع؟
فقال: النكاح لا يسمى طولا، فإنما جعلنا نكاح الحرة في حق الحرة مانعا لا بحكم الآية، لاسيما ومساق الآية يدل على الاختصاص، فإنه تعالى قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} فاعتبر إذن أهلهن ولم يتعرض لإذن المولى في حق المتزوج، فدل أن الآية للأحرار.
فكأنا نتعلق بالعموم في قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} الآية. إلا فيما استثنى، والاستثناء بالشرط وقع في حق الحرة، فبقي العبد على الأصل في العموم، وهذا واضح فاعلمه.
ولما لم يكن اللفظ متناولا لنكاح الأمة عند إدخال الحرة على الأمة، لا جرم قال الشافعي رضي اللّه عنه:
إن اللّه تعالى جوز نكاح الأمة لخوف العنت، ولم يكن هذا الخوف نسخا محرما من الابضاع في شيء من أصول الشرع، فكان هذا خاصا في هذا الحكم، فلم يكن لنا أن نتوسع في الاعتبار، فإذا صار هذا المعنى مانعا ابتداء النكاح، فلا يمكن أن يجعل على خصوصه، وخروجه عن أصول الشرع، قاطعا دوام النكاح الذي هو أثبت من الابتداء، بل يقتصر على ما ورد، ولا يتعدى، كما اقتصرنا على الحر ولم نتعده، وليس يتبين لنا أن العبد مثل الحر في هذا المعنى الدقيق المتعلق بالتفصيل، ويترقى الكلام في هذا التفصيل والتصرف في غوامض هذه المراتب إلى أعلى الغايات في الدقة، والمتأمل يعرف به بعد غور الشافعي، ولطف نظره في مغمضات الأصول ومآخذ الأحكام، واللّه تعالى يوفقنا للوقوف على معاني كلامه.
قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}: دليل على اشتراط الإذن في نكاحها، والرازي يسلم ذلك.
واحتج بأن جعله شرطا، وترك لأجله العمومات في نكاح العبد والحر، وما أسرع ما نسي سابق قوله: فإن تخصيص الإباحة بحال وشرط لا يدل على نفي ما عداه، ثم قال: ما نعلم أحدا استدل به قبل الشافعي، ثم قال: ولو كان هذا دليلا لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل، مع كثرة ما اختلفوا فيه، ثم على قرب العهد بهذا الكلام استدل بمثله، وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في عموم الأحوال أنه قال:
إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر.
فإن احتج من يجوز التزويج بها بإذن سيده بقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وأن اللفظ بعمومه يدل عليه، والشافعي رضي اللّه عنه يقول بموجب الآية، فإنه لا يجوز نكاحها إلا بإذنها، وليس فيه أن الإذن المجرد كفى عما ليس فيه بإسقاط سائر الشرائط عند وجود الإذن.
قوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
يدل على وجوب المهر لها في عموم الأحوال.
وقوله: «بالمعروف»، يمنع الغلو في المهر والتقصير.
فأضاف الأجور إليهن لوجوبه بسبب نكاحهن، وتقديره:
فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن، فإنه كلام مفيد بنفسه لا حاجة إلى تعليقه على غيره، فتم الكلام بنفسه.
وروى عن مالك أن الأمة تستحق المهر، وهذا بعيد، فإنها لو كانت قابضة للمهر إلى نفسها، لكانت مستحقة للأجرة إذا أجرها السيد.
وربما قال: النكاح حقها، ولذلك لا يجوز تزويجها من مجبوب، وإذا زوجت فلها الخيار إذا علمت. وربما يقال: لا ينعقد العقد.
وليس نكاح الأمة نقل الملك إلى غيره، بل هو إثبات الحق في منافع بضعها للزوج على وجه لم يكن، فلذلك لم يجز النكاح بلفظ التمليك عند أكثر العلماء وهذا كلام له وجه.
إلا أن المهر لا تملكه المرأة، لأجل أنها لا تملك شيئا والعبد إذا خالع زوجته فلا يملك البدل عندنا وإنما ذلك للسيد، لأن للسيد حقا في منافع بضع العبد ولكنه لما لم يملكه العبد، كان السيد أحق به.
ولعل مالكا يقول أيضا في الأمة إذا وطئت بالشبهة، أن المهر يكون لها، وهذا مبني على أن العبد هل يتصور أن يكون له ملك مستقل به، والمسألة فرع ذلك الأصل.
ثم إن إسماعيل بن إسحاق المالكي قال: زعم بعض العراقيين أنه إذا زوج أمته من عبده فلا مهر، وهذا خلاف الكتاب والسنة، وأطنب فيه.
وأجاب الرازي عن ذلك: بأنا نوجب المهر، ولكنه يسقط بعد الوجوب لئلا يكون استباحة البضع بغير بدل، ثم يسقط في الثاني حتى يستحقه المولى، لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها، ولا يثبت للمولى على عبده دينا، وهو مثل قول بعض أصحاب الشافعي رضي اللّه عنه في وجوب القصاص على الأب ثم سقوطه.
والذي ذكره الرازي لا يقطع تشغيب إسماعيل، فإنه إنما شنع بأمر فقال:
أفيجوز أن يكون الصداق فرضا من فرض اللّه تعالى لحرمة البضع حتى لا يتبذل دون الصداق ثم يغشى النساء من غير مهر؟
والرازي إن قال له: يجب بنفس العقد فلا يقول: إنه يجب عندنا لغشيان شيء.
ولا شك أن الوطء يعري عن المهر في حق الأمة المزوجة، وفيه بشاعة، فإن الغشيان كيف خلا عن وجوب المهر، وعلى أن إيجاب المهر في هذا العقد فيه إشكال، فإن المهر لو وجب لوجب لشخص على شخص، فمن الذي أوجب له وعلى من وجب؟
فإن قلت: وجب للسيد على العبد، فهذا محال أن يثبت له دين على عبده.
وإن قلت: وجب لا على أحد، فمحال.
وكما أن العقد يقتضي الإيجاب، فالملك يقتضي الإسقاط، وليس له إيجابه ضرورة الإسقاط، كما يقال: إن إثبات الملك للابن ضرورة العتق، فإن العتق لا يتصور بدون الملك، فأما إسقاط المهر فلا يقتضي إثباته، بل يمكن أن يقال: لا يجب المهر أصلا بوجه من الوجوه، فإنه لو وجب لوجب للسيد، وهذا بيّن في نفسه، وهو الصحيح من مذهبنا.
وأما استبعاد إسماعيل بن إسحاق، فلا وجه له، لأن اللّه تعالى أوجب المهر إذا أمكن إيجابه، وقد دل الدليل على أن العبد لا يملك بالتمليك أصلا، وإذا لم يملك ولابد من مالك، والسيد استحال أن يكون مالكا، فامتنع لذلك، فيكون الكلام عائدا إلى أصل آخر، وهو أن العبد هل يملك أم لا؟ ويخرج عن مقصودنا.
قوله تعالى: {مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ}.
قد مضى بشرحه، وبينا أن معناه أن يكون العقد عليها بنكاح صحيح، وأن لا يكون الوطء على وجه الزنا: لأن الإحصان هو النكاح، والسفاح هو الزنا.
{وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ}: يعني لا يكون وطؤها على حسب ما كان عليه عادة الجاهلية في اتخاذ الأخدان.